
الخُرُوْجُ مِنَ المَدِيْنَةِ المُنَورَة
بعد الدراسة العميقة للظروف الراهنة وتهيأة المتطلِّبات للسفر الطويل برفقة عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال خرج الإمام الحسين(ع) على رأس تلك القافلة المباركة قاصدين الحياة العزيزة والكريمة في ظل حذر شديد وخطر محدِق بهم جميعاً لأن أية معلومة تصل إلى عيون يزيد في تلك المرحلة كانت ستكون كلفتها باهضة جداً، ليس على صعيد القتل للبعض والسَّجْن والتعذيب للبعض الآخر، وإنما على صعيد فشل الثورة التي خُطط لها منذ زمن بعيد.
وكان هناك عدة مواقف لمحبي الإمام الحسين(ع) أبدوا له بعض النصائح:
منها: قال له عمر الأطرف بن أمير المؤمنين : حدّثني أبو محمّد الحسن عن أبيه أمير المؤمنين ، أنّك مقتول ، فلو بايعت لكان خيراً لك . قال الحسين (ع):حدّثني أبي أنّ رسول الله أخبره بقتله وقتلي ، وأنّ تربته تكون بالقرب من تربتي ، أتظنّ أنّك علمت ما لم أعلمه ؟ ، وإنّي لا أعطي الدنيّة من نفسي أبداً ، ولتلقين فاطمة أباها شاكية ممّا لقيت ذريّتها من اُمّته ، ولا يدخل الجنة من آذاها في ذريّتها :
ومنها: قال محمّد بن الحنفية : يا أخي أنت أحبّ النّاس إليَّ وأعزّهم عليَّ ولستُ أدّخر النّصيحة لأحد من الخلق إلا لك وأنت أحقّ بها ، تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، ثم ابعث برسلك إلى النّاس ، فإنْ بايعوك حمدتَ الله على ذلك ، وإنْ اجتمعوا على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ، ولم تذهب مروءتك ولا فضلك ، وإنّي أخاف عليك أنْ تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف النّاس بينهم فطائفة معك واُخرى عليك فيقتتلون ، فتكون لأول الأسنّة غرضاً ، فإذا خيرُ هذه الاُمّة كلّها نفساً وأباً واُمّاً ، أضيعها دماً ، وأذلّها أهلاً
فقال الحسين(ع) : فأين أذهب ؟ قال : تنزل مكّة فإنْ اطمأنّت بك الدار ، وإلا لحقت بالرمال وشعب الجبال وخرجت من بلد إلى آخر حتّى تنظر ما يصير إليه أمر النّاس ، فإنّك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حتّى تستقبل الاُمور استقبالاً ولا تكون الأمور أبداً أشكل عليك منها حين تستدبرها استدباراً
فقال الإمام الحسين: يا أخي ، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى ، لَما بايعت يزيد ابن معاوية: فقطع محمّد كلامه بالبكاء ، فقال الحسين(ع): يا أخي ، جزاك الله خيراً ، لقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا عازم على الخروج إلى مكّة ، وقد تهيّأتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي أمرهم أمري ورأيهم رأيي ، وأمّا أنت فلا عليك أنْ تقيم بالمدينة ، فتكون لي عيناً عليهم لا تخفي عنّي شيئاً من اُمورهم .
ومنها: قالت اُمّ سلمة : لا تحزنني بخروجك إلى العراق ، فإنّي سمعت جدّك رسول الله يقول: يُقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلا، وعندي تربتك في قارورة دفعها إليَّ النّبي(ص)، فقال الحسين: يا اُمّاه ، وأنا أعلم أنّي مقتول مذبوح ظلماً وعدواناً ، وقد شاء عزّ وجلّ أنْ يرى حرمي ورهطي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً :
قالت اُمّ سلمة : وآعجباً ! فأنّى تذهب وأنت مقتول ؟
قال(ع): يا اُمّاه ، إنْ لم أذهب اليوم ذهبتُ غداً ، وإنْ لم أذهب في غد ذهبت بعد غد ، وما من الموت والله بدّ ، واني لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه والسّاعة التي اُقتل فيها والحفرة التي اُدفن فيها ، كما أعرفك ، وأنظر إليها كما أنظر إليك ، وإنْ أحببتِ يا اُمّاه أنْ أريك مضجعي ومكان أصحابي: فطلبت منه ذلك ، فأراها تربة أصحابه، ثمّ أعطاها من تلك التربة ، وأمرها أنْ تحتفظ بها في قارورة ، فإذا رأتها تفور دماً تيقّنت قتله، وفي اليوم العاشر بعد الظهر نظرت إلى القارورتين فإذا هما يفوران دماً:
وطلب منه عبد الله بن عمر بن الخطاب البقاء في المدينة فأبى الحسين وقال :يا عبد الله ، إنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا يُهدى إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ، وأنّ رأسي يُهدى إلى بغي من بغايا بني اُميّة ، أما علمت أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الشمس سبعين نبياً ثمّ يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً ؟! فلم يُعجّل الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام:
ولما عرف ابن عمر من الحسين العزم على مغادرة المدينة والنّهضة في وجه أتباع الضلال وقمع المنكرات وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المقدّسة ، قال له : يا أبا عبد الله أكشف لي عن الموضع الذي لم يزل رسول الله (ص) يقبّله منك، فكشف له عن سرّته ، فقبّلها ثلاثاً وبكى،
فقال له :اتّق الله يا أبا عبد الرحمن ، ولا تَدَعَنَّ نصرتي:
وقد كتب(ع) وصية قبل خروجه من المدينة، جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ، إنّ الحسين يشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحقّ من عنده ، وأنّ الجنة حقّ والنّار حقّ ، والسّاعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، اُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب ، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَن ردّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين، وهذه وصيّتي إليك يا أخي . وما توفيقي إلا بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب ، ثمّ طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى أخيه محمّد:
وفي السابع والعشرين من شهر رجب سنة ستين للهجرة خرج الموكب الحسيني من المدينة المنورة وهو يضم العشرات من الرجال والنساء والأطفال، وهنا تبدأ الحكاية الواضحة الغامضة.
الشيخ علي فقيه